فصل: تفسير الآية رقم (105):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والحق سبحانه هو القائل: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله...} [الزخرف: 87].
فليس هناك خالق إلا هو سبحانه. إذن: فالأمر الذي لا يقول به أحد غير الله لا يأتي فيه الضمير. لكن الأمر الذي يأتي فيه واحد مع الله، فهو يخصِّص بهو تأكيدًا على تخصيصه لله وحده {الذي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} فليس لأحد أن يُدخل أنفه في هذه المسألة؛ لأن أحدًا لم يدّع أنه خلق أحدًا، فمجيء الاختصاص- إذن- كان في مجال الهداية بمنهج الحق، لا بقوانين من الخلق. فمن الممكن أن يقول بشر: أنا أضع القوانين التي تسعد البشر، وتنفع المجتمع، وتقضي على آفاته، ونقول: لا، إن الذي خلقنا هو وحده سبحانه الذي يهدينا بقوانينه.
إذن: فما لا يُدَّعى فلا تأتي فيه (هو)، أما ما يمكن أن يُدَّعى فتأتي فيه (هو). وقوله سبحانه: {والذي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} [الشعراء: 79].
وجاء هنا أيضًا بضمير الفصل؛ لأن الإنسان قد يرى والده وهو يأتي له بالطعام والشراب فيظن أن الأب شريك لله؛ لذلك جاء بـ {هُوَ}، فأنت إن نسبت كل رزق يأتي به أبوك، لانتهيت إلى مالم يأتي به الأب؛ لأن كل شيء فيه سببٌ للبشر ينتهي مإلى ماليس للبشر فيه أسباب، فكل شيء من الله؛ لذلك قال سيدنا إبراهيم: {والذي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 79-80].
وخصص الشفاء أيضًا؛ حتى لا يظن ظان أن الطبيب هو الذي يشفي، وينسى أن الله وحده هو الشافي، أما الطبيب فهو معالج فقط؛ ولذلك تجد أننا قد نأخذ إنسانًا لطبيب، فيموت بين يدي الطبيب؛ ولذلك يقول الشاعر عن الموت:
إنْ نَام عنْكَ فَأيُّ طِبٍّ نَافِعٌ ** أوْ لم يَنَمْ فالطِّبَّ مِن أذنَابِه

فقد يعطي الطبيب دواءً للمريض، فيموت بسببه هذا المريض. وجاء سيدنا إبراهيم بالقصر في الشفاء لله؛ حتى لا يظن أحد أن الشفاء في يد أخرى غير يد الله سبحانه.
ثم يقول سيدنا إبراهيم: {والذي يُمِيتُنِي...} [الشعراء: 81] ولم يقل: هو يميتني؛ لأن الموت مسألة تخص الحق وحده، وقد يقول قائل: كان يجب أن يقول: هو يمتني، ونقول: انتبه إلى أن إلا بنقض البنية، ويضيف الحق على لسان سيدنا إبراهيم: {والذي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ} [الشعراء: 81].
وأيضًا لم يقل: هو يحييني؛ لأن هذا أمر خارج عن أي توهم للشركة فيه، فقد جاء بهو في الأمور التي قد يُظن فيها الشركة، وهو كلام بالميزان: {والذي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدين} [الشعراء: 82].
لم يأت أيضًا بهو؛ لأن المغفرة لا يملكها إلا الله.
إذن فكل أمر معلوم أنه لا يشارَك فيه جاء بدون هو، وكل ما يمكن أن يُدَّعى أن فيه شركة يجيء بهو.
وهنا يقول الحق: {أَلَمْ يعلموا أَنَّ الله هُوَ يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ} وظاهر الأمر أن يقال: ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة من عباده، ولكنه ترك من وجاء بعن.
والبعض يقولون: إن الحروف تنوب عن بعضها، فتأتي من بدلًا من عن. ونقول: لا، إنه كلام الحق سبحانه وتعالى ولا حرف فيه يغني عن حرف آخر؛ لأن معنى التوبة، أن ذنبًا قد حدث، واستوجب المذنب العقوبة، فإذا قَبل الله التوبة، فقد تجاوز الله عن العقوبة؛ ولذلك جاء القول من الحق محددًا: {أَلَمْ يعلموا أَنَّ الله هُوَ يَقْبَلُ التوبة} أي: متجاوزًا بقبول التوبة عن العقوبة.
وهكذا جاءت عن بمعناها؛ لأنه سبحانه هو الذي قَبِل التوبة، وهو الذي تجاوز عن العقوبة.
ثم يقول سبحانه: {وَيَأْخُذُ الصدقات} صحيح أن الله هو الذي قال للرسول: {خُذْ} ولكن الرسول هو مناول ليد الله فقط، و{يأخذ} هنا معناها يتقبل واقرأ قول الحق: {إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ...} [الذاريات: 15-16] أي: متلقين ما آتاهم الله. ومثال ذلك ما يُروى عن السيدة فاطمة حينما دخلا عليها سيدنا رسول الله عليه وسلم فوجدها تجلو درهمًا، والدرهم عملة من فضة. والفضة من المعادن التي لا تصدأ، والفضة على أصلها تكون لينة لذلك يخلطونها بمعدن آخر يكسبها شيئًا من الصلابة. والمعدن الذي يعطي الصلابة هو الذي يتأكسد؛ فتصدأ الفضة؛ لذلك أخذت سيدتنا فاطمة تجلو الدرهم. فلما دخل عليها سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم سألها: ما هذا؟ قالت: إنه درهم. واستفسر منها لماذا تجلو الدرهم؟ فقالت: كأني رأيت أن أتصدق به، وأعلم أن الصدقة قبل أن تقع في يد الفقير تقع في يد الله فأنا أحب أن تكون لامعة.
فعلت سيدتنا فاطمة ذلك؛ لأنها تعلم أن الله وحده هو الذي يأخذ الصدقة.
{أَلَمْ يعلموا أَنَّ الله هُوَ يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصدقات وَأَنَّ الله هُوَ التواب الرحيم}. كل هذه الآية نفي لمظنة أن يتشككوا إذا فعلوا ذلك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذ رسول الله الصدقات، فإن توبتهم قد قُبلَتْ، ولكن الذي يقبل التوبة هو الله، والذي يأخُذ الصدقات هو الله؛ لأنه هو التواب الرحيم؛ لذلك جاء قول الحق من بعد ذلك: {وَقُلِ اعملوا فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ...}. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104)}
أخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد قال: قال الآخرون: هؤلاء كانوا معنا بالأمس لا يكلمون ولا يجالسون فما لهم؟ فأنزل الله: {ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده...} الآية.
وأخرج عبد الرزاق والحكيم الترمذي في نوادر الأصول وابن أبي حاتم والطبراني عن ابن مسعود قال: ما تصدق رجل بصدقة إلا وقعت في يد الله قبل أن تقع في يد السائل.
قال: وهو يضعها في يد السائل، ثم قرأ {ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات}.
وأخرج عبد الرزاق عن أبي هريرة في قوله: {ويأخذ الصدقات} قال: إن الله هو يقبل الصدقة إذا كانت من طيب ويأخذها بيمينه، وإن الرجل ليصدق بمثل اللقمة فيربيها به كما يربي أحدكم فصيله أو مهره، فتربو في كف الله حتى تكون مثل أحد.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده ما من عبد يتصدق بصدقة طيبة من كسب طيب- ولا يقبل الله إلا طيبًا ولا يصعد إلى السماء إلا طيب- فيضعها في حق إلا كانت كأنما يضعها في يد الرحمن، فيربيها له كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله، حتى أن اللقمة أو التمرة لتأتي يوم القيامة مثل الجبل العظيم، وتصديق ذلك في كتاب الله العظيم {ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات}».
وأخرج الدارقطني في الافراد عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تصدقوا فإن أحدكم يعطي اللقمة أو الشيء فتقع في يد الله عز وجل قبل أن تقع في يد السائل، ثم تلا هذه الآية: {ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات} فيربيها كما يربي أحدكم مهره أو فصيله فيوفيها إياه يوم القيامة». اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
{أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104)}
قوله تعالى: {هُوَ يَقْبَلُ}: {هو} مبتدأ، و{يَقْبَلُ} خبره والجملةُ خبر أنَّ، وأنَّ وما في حيِّزها سادةٌ مَسَدَّ المفعولين أو مسدَّ الأول. ولا يجوز أن يكونَ {هو} فصلًا لأنَّ ما بعده لا يوهم الوصفيَّة، وقد تحرَّر مِنْ ذلك فيما تقدم.
وقرأ الحسن قال الشيخ: وفي مصحف أُبي {ألم تعلموا} بالخطاب. وفيه احتمالات، أحدها: أن يكون خطابًا للمتخلِّفين الذين قالوا: ما هذه الخاصية التي اختصَّ بها هؤلاء؟ والثاني: أن يكون التفاتًا من غير إضمارِ قولٍ، والمرادُ التائبون. والثالث: أن يكون على إضمارِ قولٍ أي: قل لهم يا محمد ألم تعلموا.
قوله: {عَنْ عِبَادِهِ} متعلقٌ بـ {يَقْبَل}، وإنما تعدَّى بـ {عن} فقيل: لأنَّ معنى مِنْ ومعنى {عن} متقاربان.
قال ابن عطية: وكثيرًا ما يُتَوَصَّل في موضع واحد بهذه وبهذه نحو لا صدقةَ إلا عن غني ومِنْ غني، وفعل ذلك فلانٌ مِنْ أَشَره وبَطَره، وعن أَشَره وبَطَره.
وقيل: لفظه {عن} تُشعر ببُعْدٍ ما، تقول: جلس عن يمين الأمير أي مع نوعٍ من البعد. والظاهرُ أنَّ {عن} هنا للمجاوزة على بابها، والمعنى: يتجاوز عن عباده بقبول توبتهم، فإذا قلت: أخذت العلم عن زيد، فمعناه المجاوزةُ، وإذا قلت: منه فمعناه ابتداء الغاية.
قوله: {هُوَ التواب} يجوز أن يكون فصلًا، وأن يكون مبتدأ بخلافِ ما قبلَه. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104)}
تمدَّحَ سبحانه بقبول توبة العاصين إذ بها يُظْهِرُ كَرَمَه، كما تمدَّح بجلال عِزِّه ونَبَّههم على أَنْ يَعرِفوا به جَلاله وقِدَمَه.
وكما تَوحَّدَ باستحقاق كبريائه وعظمته تَفَرَّدَ بقبول توبة العبد عن جُرْمِه وزَلَّتِه. فكما لا شبيهَ له في جماله وجلاله لا شريكَ له في أفضاله وإقباله؛ يأخذ الصدقاتِ- قَلَّتْ أو كَثُرَتْ، فَقَدْرُ الصَّدَقَةِ وخَطرُها بِأَخْذِه لها لا بكثرتها وقِلَّتها؛ قَلَّتْ في الصورة صَدَقَتَهُم ولكِنْ لمَّا أَخَذَها وقِبِلها جَلَّتْ بقبوله لها، كما قيل:
يكون أُجاجًا دونكم فإِذا انتهى ** إليكم تَلَقى طيبَكم فيطيبُ

اهـ.

.قال القاسمي:

نقل ابن كثير عن الحافظ ابن عساكر، عن حَوْشَب قال: غزا الناس في زمن معاوية، وعليهم عبد الرحمن بن الخالد بن الوليد، فغلَّ رجل من المسلمين مائة دينار رومية، فلما قفل الجيش ندم، وأتى الأمير، فأبى أن يقبلها منه، وقال: قد تفرق الناس، ولن أقبلها منك حتى تأتي الله بها يوم القيامة، فجعل الرجل يأتي الصحابة، فيقولون له مثل ذلك.
فلما قدم دمشق ذهب إلى معاوية ليقبلها منه، فأبى عليه، فخرج من عنده وهو يبكي ويسترجع، فمرَّ بعبد الله ابن الشاعر السَّكسكي، فقال له: ما يبكيك؟ فذكر له أمره، فقال له: أو مطيعي أنت؟ فقال نعم. فقال: اذهب إلى معاوية فقل له: اقبل مني خمسك، فادفع إليه عشرين دينارًا، وانظر إلى الثمانين الباقية، فتصدق بها عن ذلك الجيش، فإن الله يقبل التوبة عن عباده، وهو أعلم بأسمائهم ومكانهم، ففعل الرجل.
فقال معاوية: لأن أكون أفتيتُ بها، أحب إليَّ من كل شيء أملكه. أحسن الرجل. انتهى.
في هذه الرواية إثبات ولد لخالد، وفي ظني أن صاحب أسد الغابة ذكر أنه أم يعقب، فليحقق. اهـ.

.تفسير الآية رقم (105):

قوله تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما أمره من تطهيرهم بما يعيدهم إلى ما كانوا عليه قبل الذنب، عطف على قوله: {خذ} قوله تحذيرًا لهم من مثل ما وقعوا فيه: {وقل اعملوا} أي بعد طهارتكم {فسيرى الله} أي الذي له الإحاطة الكاملة {عملكم} أي بما له من إحاطة العلم والقدرة فاعملوا عمل من يعلم أنه بعين الله: {ورسوله} أي بإعلام الله له.
ولما كان هذا القسم من المؤمنين فكانت أعمالهم لاخفاء فيها، قال: {والمؤمنون} فزينوا أعمالكم جهدكم وأخلصوا، وفي الأحاديث «لو أن رجلًا عمل في صخرة لا باب لها لأظهر الله علمه للناس كائنًا ما كان».
ولما كان هذا السياق للمؤمنين حذف منه ثم لكنه لما كان للمذنبين، أكد بالسين فقال: {وستردون} أي بوعد لا خلف فيه {إلى عالم الغيب والشهادة} أي بعد الموت والبعث {فينبئكم} أي بعلمه بكل شيء {بما كنتم تعملون} أي ما أظهرتم عمله وما كان في غرائزكم، فلو تأخرتم تظهرتم، يجاريكم على حسنة ويزيد من فضله، وعلى سيئة عدلًا إن شاء ولا يظلم مثقال ذرة. اهـ.